إذا كان التلفزيون كتقنية يعمل على تشتيت انتباه الطفل، ويشير إليه الأطباء كواحد من أهم أسباب سمنة الأطفال التي يصعب التخلص منها بعد ذلك، ومن الحقائق الطبية أن هناك عددًا كبيرًا من الأمراض مرتبطة بعامل السمنة وبالتالي فكثرة المشاهدة تسهم في بناء جيل مريض لا يستطيع النهوض بنفسه أو بأمته.
فإن التعرض لمضمون ما يشاهده الأطفال في التلفزيون التقليدي- أي إذا استثنينا المواد ذات الطابع الإسلامي وبعض البرامج القليلة الهادفة- هو الأسوأ حيث إننا نجد أطفالنا وسط ساحة حرب غير مفهومة تستخدم فيها كل الأسلحة الحقيقية والخيالية وسنجد أنفسنا نغوص في بحيرات من الدماء وتصك آذاننا أصوات الرصاص والمتفجرات، وستعتاد أعيننا مشاهدة القتلى والمشوهين والكائنات الغريبة المرعبة.
إضافة للعنف الرهيب الذي يشاهده أطفالنا فإن عقيدتهم تكون على خطر عظيم، فالأفلام التي يشاهدها الصغار نبتت في بلاد بعيدة غريبة محملة بعقيدة القوم ورموزهم وأساطيرهم التي تتسلل خفية لوجدان الطفل الجالس في حالة انبهار وتلق فتتسلل إلى وجدانه دون أن نشعر.
ولنفس السبب السابق نجد هذه الأعمال محملة بدعوات الانحلال التي يتلقاها الطفل واضحة جلية، حيث النساء بالغات التبرج والعلاقات مفتوحة بين الجنسين، فيعتقد الطفل الصغير بعقله الغض أن ارتداء النساء لهذه الملابس العارية لا يحمل أي معنى سلبي بل هو شيء مقبول ومعقول وهو أجمل مما يراه في بيئته على أرض الواقع، لأن عالم الكرتون الخيالي هو العالم المثالي في عيون الطفل وبالتالي فإن هذه النوعية من الأفلام تجعل الطفل ينمو في حالة من الميوعة والأخطر أنها تنحرف بتفكير الصغير والصغيرة إلى موضوعات لم تزل بعد بعيدة عن أفكارهم وخيالهم بحكم النمو النفسي فكأنها تحرق مراحل مهمة وبريئة في حياتهم، فهو إجبار على النضج قبل الوقت المناسب ولكنه نضج يملؤه الخواء.
هل نمنعه؟!
ما الحل إذن؟! هل نمنع الطفل من مشاهدة التلفزيون؟!! يبدو أن قرار المنع المطلق قرار غير حكيم، فالطفل الممنوع من المشاهدة يشعر بالنقص خاصة عندما يجد الأطفال الآخرين يتحدثون عن الأعمال التي يشاهدونها وقد يدفعهم ذلك لاختلاس المشاهدة ولو كان في مرحلة عمرية أكبر فقد يذهب للمشاهدة عند أحد الأصدقاء مثلًا.
كما أن ثمة إيجابيات قد يحصلها الطفل لو شاهد عددًا معقولًا من الساعات الموجهة التي ربما تساعد على تنمية خياله بالإضافة إلى تعلم اللغة العربية السليمة، لأن الأفلام التي تتم دبلجتها يكون النطق فيها باللغة العربية الفصحى لا بلهجة عامية محلية معينة.
لذلك أرى أن التعامل الإيجابي مع التلفزيون لابد له من أمرين:
الأول: هو عدد الساعات التي يقضيها الطفل أمام التلفزيون، ومن الممكن البدء بتخفيض عدد ساعات المشاهدة بحيث يكون الحد الأقصى للمشاهدة لا يتجاوز الساعتين يوميًّا، في أيام العطلة وحبذا لو وصل عدد ساعات المشاهدة لساعة واحدة فقط، والأمر بحاجة لصبر الوالدين اللذين أدمن أطفالهما المشاهدة بحيث تقل عدد الساعات بالتدريج مع اتباع سياسة النفس الطويل لا سياسة الصدمة.
وتستبدل هذه الساعات بأنشطة أخرى مفيدة للطفل، كحفظ القرآن وقراءة القصص الهادفة، أو ممارسة الرياضة، أو اللعب مع الأصدقاء، أو ممارسة هواية الرسم والتلوين، أو ممارسة ألعاب تنمي الذكاء كلعبة المكعبات والبازل، ومحاولة تقديم البديل عن طريق تشجيع الطفل على مشاهدة الأعمال المخصصة للأطفال التي تنتجها المؤسسات الإسلامية، حتى لو كانت أقل جاذبية وإن كانت هناك جهود كبيرة لقنوات إسلامية تعنى بالطفل بشكل مشوق وبعضها نجح بالفعل في تكوين قاعدة عريضة من الأطفال.
كما لابد من قضاء وقت خاص مع الطفل للاستماع إليه، واللعب معه ومبادلته الحديث مهما كانت الضغوط والمسئوليات.
الأمر الثاني: متابعة ما يشاهده الطفل في هذه الأوقات؛ بحيث نشجع الطفل على تكوين رأي نقدي فيما يشاهد، ورفض الأعمال التي تتعارض مع قيمنا؛ بحيث تتم عملية اختيار واع لطبيعة القصص المشاهدة، والمهم هو إفهام الطفل بطريقة مناسبة لسنه لماذا نوافق على هذا العمل، بينما نرفض الآخر؟ بحيث لو شاهد الطفل العمل المرفوض، ونحن بعيدون عنه، فإنه يرفض مشاهدته أو على الأقل يكون مدركًا للأخطاء الواقعة فيه، وهكذا تتكون لديه حاسة ناقدة هي أساسية لنجاته.
أما الطفل الذي يتركه أبواه فريسة لهذه القصص- سواء في عدد الساعات المفتوحة أو المشاهدة الحرة غير المقيدة- فإنهما قد تخليا عن المسئولية الملقاة على عاتقهما في التربية لصالح آلة إعلامية جبارة ومدمرة للنبت الأخضر البريء وللقلوب الصغيرة الطاهرة.
دعوة للفطرة:
لابد من العودة إذن للمنهج الإلهي كما عاشه خير البرية صلى الله عليه وسلم في طفولته، أي العودة بالأطفال للعب الحر في المكان المفتوح؛ باعتبار ذلك هو الفطرة السوية، وتحجيم ظاهرة اللجوء للتلفزيون كمصدر للمتعة بالنسبة للطفل.. أعلم يقينًا أنها ليست بالدعوة السهلة في هذه الأيام فمعظم المنازل ضيقة، وكثير من الأمهات لا تجد الوقت أو الجهد لمتابعة حركة الأبناء وما قد يترتب على ذلك من فوضى، والآباء منهمكون في الأعمال فلا وقت لاصطحاب الأولاد للنزهات الخلوية، ولكن هذا المنطق مدمر حقيقة، ويقضي على آمال أمتنا في النهضة، فإذا كنا عاجزين أن نبذل بعض الجهد من أجل جيل سوي، من أجل جيل على الفطرة، فكيف ندعي أننا نريد الجهاد في فلسطين، وأننا فقط نريد فتح باب الجهاد، وما إلى ذلك من كلمات كبيرة لا يصدقها إلا العمل؛ فعلينا إعادة تخطيط بيوتنا فنتخلى عن بعض الأثاث الذي تزدحم به منازلنا، ولنجعل بيوتنا أكثر بساطة؛ حتى يستطيع الأطفال أن يلعبوا فهذا حقهم، وهو من الحقوق الأساسية التي ينبغي إشباعها، وهذا أهم بكثير من أن يصبح بيتنا الأكثر فخامة، والأكثر نظامًا وترتيبًا، ولن يهمنا رأي الآخرين الذين يعتبرون أن الأشياء، والأثاث، والتحف أهم من سعادة الأبناء بل لعلنا قدوة لهم، ونسن لهم سنة حسنة، فإضافة إلى أن البساطة قيمة إسلامية كبرى طبقها نبينا ودعا إليها فهي ضرورة تربوية لأن تناقص المساحات الخارجية المتاحة للعب أصبح أمرًا واقعًا.
وعلى الأب مسئولية كبرى في الخروج بالأبناء للأماكن الخلوية الجميلة، ويعتبر ذلك العمل البسيط جهادًا في سبيل الله، لأنه يبغي تكوين جيل النصر على أسس الفطرة، ولعله يتذكر كيف كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مهتمًّا بالخروج بالحسن والحسين إلى الخلاء حيث تقوى الأجسام والعقول وتخرج كل الطاقات السلبية لدى الطفل وتحل محلها طاقات إيجابية ومشاعر فرح جميلة بريئة، هذا مع عظم مسئوليات علي وكده وراء لقمة العيش حيث كان يملأ كل دلو من البئر مقابل تمرة وهذا عمل مجهد جدًّا ومردوده المادي ضعيف ولكن هذا لا يدفعه لطلب الراحة في المنزل ولا يجعله يستشيط غضبًا إذا سمع صوت الأولاد يلعبون، بل العكس هو من يشاركهم اللعب هو من يبادرهم لأخذهم بعيدًا للخلاء كي يلعبوا كيفما يحلو لهم. فهل نقتدي، فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.
الكاتب: فاطمة عبد الرءوف.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.